الأربعاء، 13 يونيو 2012

من وحي الثورة



قصة مشتركة كتبناها سويا أنا وزميلي العزيز يوسف هريمة من المغرب
------------------------------------------------
تحت لهيب الشمس الحارقة لا زالوا يحملون فؤوسهم، والعرق يتصبب كالشلال. لا تفارق البسمة محياهم، وحين تأفل الشمس في جوف السماء يتناثرون كما تتناثر أوراق الخريف.
ليس لهم نصيب من الدنيا إلا التعب، فالحاج علي وهو أكبرهم سنا وأرجحهم عقلا ضاق ذرعا بحياة المزرعة. فلا صوت هنا يعلو على صوت من يلقبونه ب" الفرعون "، رجل في السبعينيات من عمره، مربوع القامة، أسمر البشرة. قضى عمرا طويلا ليكوِّن ثروته بعد أن كان مجهول الاسم،عاش يتيما وجرح الأبوين نزيف لم يندمل بعد.
يقضي يومياته متجولا بين الفلاحة ومن رمتهم قلة ذات اليد ليمارس سلطته عليهم، يرمي السوط ويعلي الصوت:" ياالله يا تعبانين ما فيش عمل يعني ما فيش فلوس ".
تتلاقى العيون لتبكي قدرها، ولا من يجرؤ على تكسير حاجز الخوف، ويستمر المشهد المرعب، وتتناسل الأسئلة وينعدم الجواب: متى نحطم الصنم؟.
كان الحاج علي شاهدا على المأساة، فقد خبر المزرعة وذاق طعم الذل من زمن بعيد، رجل في الخمسينيات من عمره، لم يأخذ منه ظلم المزرعة بريق عينيه، فظل محافظا على رشاقته وهمته. علاقته ببقية العاملين والفلاحة علاقة ممتدة في ارتباطاتها، فقد سبق له أن رئس الخدم وأسلم المسؤولية لصاحبها بعد أن ضاق ذرعا بظلمه. الكل يلقبه بالحكيم، ويمدون إليه الأعين أملا، فلا صوت هنا يعلو على من يلقبونه ب" الفرعون ".
وبينما تترقب القلوب وتهفو إلى مخلصها، قرر الحاج علي أن يقوم بثورة يكون شعارها الحرية، فلا مكان للاستعباد في هذا الزمن العقيم، وبدأ يحشد كل المتظلمين وأصحاب الحاجة، وكل من يجعل من رأس هذا النظام السائد في المزرعة هدفا أسمى.
بدأ الهمس،ثم همهمة مسموعة ،خفتت عندما تعالى صوت الحاج علي: إلى متى نصبر على الذل؟
إلى متى نستعبد؟
بدأت الأعين تزوغ، والرقاب تلتف ربما خوفا وترقبا وربما بحثا عمن يجيب
وأتت الاجابة من كهل يقف بعيدا: ماذا تريدنا أن نفعل؟ نعم ولدنا أحرارا ،لكن يجب أن نصبح عبيدا لنعيش.
وهنا صاح أحد الشباب:لا حياة بلا كرامة
وتعالى صوت: تقول ذلك لأنه ليس لديك مسؤوليات، كيف سيأكل أبناؤنا إذا تركنا العمل؟
أجاب الشاب: ليس بالخبز وحده يحيا الانسان
لا طعم للخبز بدون حرية
الحرية يا إخواني،الحرية أغلى من الحياة.
تسمرت أعين الناس والحاج علي يعزف على الوتر الحساس، ليقتنع الجمع بعدها بضرورة التحرك، فما عانوه لسنين طويلة يستحق منهم الثورة على صمتهم، ولو أن أحدهم تساءل بصوت خافت: " من سيخلف الفرعون يا اخوانَّا ؟ ".
لم يكترث الجمع بهذا السؤال، ومنهم من أسرَّ الجواب في نفسه واكتفى بنظرات خجولة ارتسمت عليها علامات استفهام مؤجلة.
انطلق الجمع الى قصر الفرعون، ذلك القصر الذي لم يجرؤ أحدهم يوما على النظر اليه ،انطلقوا بأياديهم المتشابكة، وكل منهم يؤمن أنه قادر -مع رفاقه-على تحطيم تلك الجدران الفولاذية وطرد الفرعون وإنزاله من عرشه.
اتفقوا على شعار يرافق مسيرتهم: " الغلابة يريدون إسقاط الفرعون "، وفي مشهد رهيب اتحدت حناجرهم، وتزلزلت الأرض تحت أقدامهم. كل من صادفهم الجمع في الطريق إما ملتحق أو مصفق داعم، أو حاقد نما بين أحضان الظلم، أو متربص بين الصفوف عله يجد مخرجا يوقف زحف الثورة.
في حركة تلقائية تشابكت أياديهم التحمت أجسادهم، صاروا كتلة من اللهب اندفعت نحو القصر .....
زلزال !!!!فيضان!!!!بل هو بركان...
هكذا رأى من كانوا بالقصر
ماذا يحدث ؟ من أين أتى هؤلاء؟ كيف تجرؤوا؟
الأصوات تتعالى منذرة باقتراب الجمع.....
تجحظ عيون الفرعون وأتباعه، يحاول رئيس الحرس إيجاد مخرج لما يحدث فيصيح: مأجورون ، مخربون، لابد من القضاء عليهم
أطلقوا الرصاص
انطلق الغفر الى الشرفات ، صوبوا أسلحتهم تجاه الجمع، لكن الهتاف كان أقوى من طلقات الرصاص...
اهتزت الأيادي التي تحمل السلاح ولم تقو على مواجهة الأيادي المتشابكة.
انطلق الرصاص في الفضاء، لكن بعضه عرف الطريق الى أفئدة كرهت الخضوع.
مع سقوط كل شهيد كانت الهتافات تعلو، العزم يزيد الشعب يريد
الشعب يريد اسقاط الفرعون
الرصاص لم يعد يجدي
سقوط القتلى لا ينقص العدد، فالشهداء لا يموتون
نظر رئيس الحرس الى الأيادي المتشابكة وصاح:
لابد أن تتفرق أياديهم، لا تقتلوهم فالقتل يقويهم، فرقوهم تقضوا عليهم
تعالت الأصوات مكسرة قبضة الخوف، وتماسكت الأيادي فارتجفت الأرض تحت أقدام الفرعون، حاول الاستماتة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.
حتى من كان بالأمس يده اليمنى، وبيدقا من بيادقه التحق بالجمع، فزحف الغضب لن يوقفه أحد...
نفض الجميع يدهم من صلابة الفرعون، ومن استفاد من وضع المزرعة في الماضي عاد خطيبا في الحقوق والأخلاق.
سقط الفرعون من عليائه مستسلما لإرادة التغيير، ولحق الذل والعار بمن شكك في القدرة عليه، وعادت الأصوات مكبرة بحلول فجر جديد.
شعر الحاج علي ومن معه بثقل المسؤولية، فالمزرعة الآن دون قائد وسقوط الفرعون لا يعني نهاية التاريخ، فمن كانوا أذياله بالأمس لا زالوا يحتلون كل دهاليز المزرعة، والمكان فارغ يحتاج من يملأه.
تنفس الجمع الصعداء فرحا ومرحا بسقوط ممثل الذل والهوان، وأخذ السامري يدق مساميره في إسفين الثورة، فالحركة متوقفة، والناس تعودت على الانقياد تعود الخراف على راعيها.
تعالت الأصوات والكل يحاول أن يستثمر في المولود الجديد.
انبرى الحاج علي وهو أحد الممثلين لثورة الجياع يقول: مضى زمن الفرعون، والمكان فارغ، وها أنذا أرشح نفسي للقيادة، فانظروا في أمري أصنع لكم من هذه المزرعة جنة خضراء.
لم يخف الناس غضبهم وبدأت النظرات تسابق الزمان في من يمكن أن يخلف الفرعون ويغير الوضع القائم، فالفراغ قاتل ولقمة العيش سيف لا يقهر.
لم يقبل الناس فكرة الحاج علي ولو أنه من مهَّد لطريق التغيير.
لماذا لا أكون أنا؟
سؤال تردد داخل كل فرد
كيف أخضع لفرعون جديد؟
من يدريني أنه لن يفعل مثل من سبقه؟
لا لن أثق إلا بنفسي
هكذا تحدث لسان حال الثوار، وهذا ماقرأه أعوان الفرعون القديم في أعينهم
فجاءت الفكرة:
كل عائلة منكم تختار من يمثلها، ثم يجتمع هؤلاء النواب ليختاروا القائد من بينهم......
بدأت الأصوات تعلو، لكن الهتاف لم يكن واحدا، لم يكن ضد الفرعون
تشابكت الأيدي، لكن لتتصارع...
كان على الناس أن تدرك خطر الفراغ وخطر التنازع، فانبرى شاب من بين الجمع مذكرا:" لا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم "، وبدت نظرات البعض تخترق جدار الصمت.
أدرك الحاج علي أن الثورة تحتاج لثورة أخرى، فحين لا تربو معارف الناس ومداركهم نحو السلطة يكون اقتسام المغانم هدفا أعلى.
حلق بعيونه على مدى اتساع ذلك القصر.
خانته بعض الدمعات فابتسم ابتسامة سخرية، وقال:" من فرعنك يا فرعون؟ قال: لم أجد من يوقفني على فرعنتي ".
حمل على كتفه لوحة كان مكتوبا عليها:" الشعب يريد تغيير الفرعون"، ووعد نفسه بأن يستبدلها بعبارة جديدة:" الشعب يريد تغيير نفسه ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق